لماذا تأخر دفن النبي ﷺ وما الخلاف الذي وقع بين الصحابة .؟
من المعلوم أن من إكرام الميت التعجيل بدفنه ، فبم تفسرون دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يومين ؟
ليس في تأخير دفن جسد النبي صلى الله عليه وسلم الطاهر أي مخالفة لإكرام الميت ، وبيان ذلك من وجوه عدة
أولا
جسد النبي صلى الله عليه وسلم الطاهر في حياته وموته ليس كأجساد بقية البشر ، لا يغيره الموت ولا تصيبه الآفات ، بل هو محفوظ بحفظ الله عز وجل ، جسد شريف طيب طاهر في حياته وفي مماته ، والدليل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله في " صحيحه " (رقم/3667) عن عائشة رضي الله عنها في قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : ( فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ ، قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا....إلى آخر الحديث )
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( لَمَّا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ لِغَسْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ إِلا أَهْلُهُ : عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَقُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَصَالِحٌ مَوْلاهُ....وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ يُقَلِّبُونَهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَصَالِحٌ مَوْلاهُمَا يَصُبَّانِ الْمَاءَ ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَغْسِلُهُ ، وَلَمْ يُرَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلم شَيْءٌ مِمَّا يُرَاهُ مِنَ المَيِّتِ ، وَهُوَ يَقُولُ : بِأَبِي وَأُمِّي ، مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا...إلى آخر الحديث ) رواه أحمد في " المسند " (4/187) وقال المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة : حسن لغيره . انظر: " الخصائص الكبرى " للسيوطي (2/469-492)
ولهذا فقد أمِنَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على جسده الشريف أن يتغير بسبب الموت ، وكراهة تأخير الدفن معللة بخوف تغير الميت ، أما إذا انتفت العلة فأُمِنَ التغير ، كما في جسده صلى الله عليه وسلم ، فلا كراهة حينئذ ، إذا وجدت حاجة لمثل ذلك التأخير
ثانيا
ومن الحاجات التي ربما تكون قد دعت إلى ذلك التأخير ، حرص جميع الصحابة رضوان الله عليهم على الصلاة عليه ، فقد صلى عليه جميع الناس ، الرجال والنساء والصبيان ، صلوا أرسالا - أي جماعات متفرقين -، لم يؤمهم إمام واحد ، وإنما كان يدخل الجمع منهم حجرته الشريفة عليه الصلاة والسلام فيصلون عليه فرادى ، وهذا لا بد أن يستغرق كثيرا من الوقت كي يدرك الجميع هذه الفضيلة .
جاء في " موطأ مالك " (1/231) :
" أنه بلغه أنه صلى الناس عليه أفذاذا لا يؤمهم أحد " انتهى.
وروى ابن أبي شيبة في " المصنف " (7/430) عن سعيد بن المسيب قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع على سريره , فكان الناس يدخلون زمرا زمرا يصلون عليه ويخرجون ولم يؤمهم أحد .
وقد كان اختلافهم في شأن غسله صلى الله عليه وسلم ، ومن يغسله ، وأين يدفن ، كل ذلك مما يستغرق شيئا من الوقت ، ويدعو إلى بعض التأخر .
بل قبل ذلك ، كان وقع هذه الفاجعة على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عظيما ، فلم تكد عقولهم وقلوبهم تطيق ثقل المصيبة ، حتى أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ، وكان من الصحابة من أصمت ، ومنهم من أقعد إلى الأرض فلم يستطع حراكا ، وهكذا لم يصب الصحابة بمصاب أعظم من ذلك اليوم .
حتى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه ... ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
انظر: " الروض الأنف " (7/584، 602) .
ثالثا
لقد اشتغل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بما يحفظ على الأمة أمرها وشأنها ، فدارت بينهم بعض الحوارات والاجتماعات لتحديد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كي يوحدوا راية الأمة ، ويقطعوا على الشيطان سبيل التفرقة بين الناس ، وكي لا يخلو الناس من إمام يقيم فيهم الحق ، ويخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشؤون العظام ، وهذا أيضا استغرق بعض الوقت .
وقد كان ذلك هو أهم وأعظم أمر دعاهم إلى التأخر في دفنه هذه الأيام .
قال الزرقاني رحمه الله :
" إنما أخروا دفنه لاختلافهم في موته أو في محل دفنه ، أو لاشتغالهم في أمر البيعة بالخلافة حتى استقر الأمر على الصديق ، ولدهشتهم من ذلك الأمر الهائل الذي ما وقع قبله ولا بعده مثله ، فصار بعضهم كجسد بلا روح ، وبعضهم عاجزا عن النطق ، وبعضهم عن المشي ، أو لخوف هجوم عدو ، أو لصلاة جم غفير عليه " انتهى من " شرح الموطأ " (2/94)
رابعا
ومع هذه الأسباب والأحداث المتنوعة التي ذكرناها ؛ فإن الأمر كله يستغرق سوى شيئا من نهار الاثنين ، وليلة الثلاثاء ونهاره ، ثم دفن عليه الصلاة والسلام وسط ليلة الأربعاء ، أي إن الأمر كله لم يستغرق أكثر من (48) ساعة في أعلى تقدير ، وهذا وقت ليس بالطويل ، ولا يكاد يكفي لتحقيق جميع الأسباب السابقة . انظر " السيرة النبوية الصحيحة
فكيف إذا علمنا أن كثيرا من المحدثين قالوا إنه عليه الصلاة والسلام توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء ، وليس ليلة الأربعاء .
فقد اختلف المحدثون والمؤرخون في اليوم الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك على قولين :
القول الأول : أنه دفن ليلة الأربعاء ، وهو الذي عليه الأكثرون ، واستدلوا لذلك بما روي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ( تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ )